منطق ابن خلدون

منطق ابن خلدون للوردي
كتاب رائع جداً
يبهرني هذا الوردي في كل مرة أقرأ له بأسلوبه الممتع في الطرح الذي يوصل المعلومة إلى ذهن القاريء بكل سلاسة وبساطة ..
ففي هذا الكتاب حاول ان يشرح مقدمة ابن خلدون وما جاء بها
ويطرح اراء ومفاهيم أهم المدارس الفكرية التي تأثر بها ابن خلدون وهذا الكتاب يغني القاريء عن مطالعة عدد كبير من الكتب وهو أقرب أن يكون الحامع الشامل .
اولاً شرح منطقه الأرسطي والفرق بينه وبين منطق ابن خلدون
فالأول يعتمد على الصورية والتجريد
وابن خلدون يعتمد على القياس والبيئة والمجتمع
وبعد ذلك شرح رأي المفكرين المعاصرين بما كتبه ابن خلدون
وماهي العوامل التي أثرت به حين كتب مقدمته
والصراع القائم بداخله من ناحية سياسية من جهة بحكم ترقيه من حاجب إلى وزير قبل اعتزاله
ومن جهة دينية من ناحية أخرى بحكم تربيته في بيت جده وأبيه الفقيه
عند اعتزال ابن خلدون في البادية قرر أن يكتب تاريخ المغرب فهو أراد أن يكون لها تاريخ خاص بها منفصل
ولكنه بمجرد أن بدأ العمل وجد نفسه أنه لايستطيع أن يكتب تاريخ للمغرب من غير أن يرجع إلى كتب التاريخ المشهورة كتاريخ الطبري والمسعودي وغيرهما …
ليدرس مدى إرتباط تاريخ المغرب بتاريخ الأمم الأخرى بوجه عام ، والدور الذي لعبه المغرب في التاريخ الإسلامي بوجه خاص
وحين أخذ يتغلغل في مطالعة تلك الكتب
وجد فيها أخباراً لاتطمئن إليها نفسه ولا يميل إليها عقله ، ولعل هذا هو الذي حفزه إلى أن يكتب مقدمة لتاريخه يبين السبب الذي جعله يرفض تلك الأخبار .. وهنا تنبهت قريحته ،،
والجدير بالذكر أنه لم يكن ينوي أن يجعل مقدمته بهذا الحجم فهي تحتوي على حوالي الألف والخمسمائة صفحة ..
فقد كتبها تحت تأثير مفاجيء من فيض الخاطر
ويعزو ذلك إلى الإلهام ويبدي هو تعجبه من الطريقة التي انبثقت بها إلى ذهنه أفكار المقدمة ..فأقام بالبادية أربعة أعوام متخلياً عن كل الشواغل ليكمل مقدمته ..
وقد شرح الوردي
كيف أن ابن خلدون حين خرج من عزلته تغير تغيراً لايستهان به
فبعد ماكان يجري وراء السياسة ابتعد عنها ورجع إلى تونس وانكب على البحث والتدريس …
بعد ذلك طرح الوردي كيف أن بعض النقاد حاول أن ينتقصوا من نظرية ابن خلدون بحجة أنه جمع نظريته من أفكار سابقة
وجاء رد الوردي ذلك الرائع رائعاً حين قال (الواقع أنه ليس هناك في هذه الدنيا مفكر يبتدع نظرية جديدة بغير الإستعانة بمن سبقوه من المفكرين ،، فهو يستمد عناصر نظريته من غيره في الغالب ولكنه يربط بين تلك العناصر أو يركبها على صورة جديدة لم تكن معروفة من قبل )
ويخبر الوردي أن الإضافة التي يأتي بها المبدع في هذا الشأن قد تكون قليلة جداً بالمقارنة إلى الأفكار التي كانت موجودة أصلاً ولكن على الرغم من ذلك قد يخطو بالفكر البشري خطوة كبيرة تخلد اسم ذلك المبدع ..
وعرض بعد ذلك أمثلة لمبدعين أمثال نيوتن وأرخميدس ..
واستعرض الوردي بعد ذلك الأفكار التي كانت معروفة قبل ابن خلدون والمفكرون واراءهم وكانو شتى منهم الفقيه والمتصوف والفيلسوف والعالم والاديب وكيف عالجها ابن خلدون وقولبها من جديد ..ومنهم الفارابي
الذي هو اقرب إلى أفلاطون صاحب المدينة الفاضلة وبين منطق ابن خلدون
فالأول يبحث في “ماهو واجب “بينما الثاني يبحث في “ماهو واقع”
وذلك بحسب قول الوردي فرق عظيم بلا ريب .وقارن أيضا أفكار ابن خلدون بالكثير من أفكار الذين سبقوه
أمثال الغزالي وابن سينا وأبو حيان التوحيدي وابن الهيثم وغيرهم…
وجاء الوردي بهذه المقارنة ليبين أن أكثر أفكار ابن خلدون استمدها ممن قبله
وليس هذا قدحاً به أو انتقاص من عظمة فكره.. فهو إنما اقتبس تلك الأفكار ليؤلف نظريته الجديدة على منوال مايفعل المخترع حين يركب اختراعه الجديد من مخترعات سابقة .
بعد ذلك ركز الوردي على الفلسفة وكيف أثرت في تفكير ابن خلدون وموقف الفلاسفة من العامة وهذه الناحية بالذات تتصل اتصالاً وثيقاً بتفكير ابن خلدون .. بحكم كونه مؤسس علم الإجتماع فالعامة هم من يؤلفون كيان المجتمع وهم الذين ينتجون معظم الظواهر الإجتماعية التي عني ابن خلدون بدراستها.
واستعرض الوردي الملامح الرئيسية لموقف الفلاسفة من العامة منذ ظهرت الفلسفة في العالم الإسلامي على يد المعتزلة ومن ثم الشيعة الإسماعيلية وبعد ذلك الغزالي والمتصوفة وأخيراً ابن رشد …
وقارن بين تفكيرهم بالعامة وتفكير ابن خلدون..
وركز بعدها على علاقة ابن خلدون بالفلسفة وكيف نقد المنطق الذي سار عليه الفلاسفة نقداً شديداً وكان من رأيه ان المنطق القديم لايفيد إلا في نطاق ضيق جداً هو النطاق الذي يخص ترتيب الأدلة ..
أما في ماعدا ذلك فهو يؤدي إلى نتائج مغلوطة ومن هنا كان المناطقة غير قادرين على الوصول إلى نتائج صحيحة في الأمور الإلهية والسياسية وغيرها .ويعد ابن خلدون بذلك مختلفاً عن الفلاسفة الذين كانو يعدون المنطق سبيل التفكير الصحيح في كل الأمور الدينية منها والدنيوية .
بعد ذلك سأل الوردي هل ابن خلدون فيلسوف ؟؟
وعرّف الفلسفة وفق معناها الحديث بأنها كل محاولة عقلية يأتي بها مفكر لتفسير الكون ومكان الإنسان فيه ..
وعلى ضوء تعريفها عدّ ابن خلدون فيلسوف من الطراز الأول لأنه استند في بناء نظرته حول الكون والمجتمع على مختلف ماتوصل إليه الفكر البشري من علم وفلسفة خلال العصور التي سبقت عصره .
بعدما تحدث الوردي عن نظرية ابن خلدون من نواحيها المختلفة تحدث في النهاية عن سلوك ابن خلدون الشخصي ومدى الصلة بينه وبين نظريته الإجتماعية .أشار الوردي في هذا الفصل من كتابه عن حب ابن خلدون للمنصب والجاه وكان يملك لباقة دبلوماسية ممتازة وكان حسن الصورة بارع الحديث ويعرف كيف يتصرف مع الملوك ويتحبب إلى قلوبهم ولعل هذا هو الذي جعل الملوك يحاولون اجتذابه إليهم على الرغم من اشتهاره بقلة الوفاء..
فهو ماإن يشعر أن نجم أحد الملوك أو الأمراء بدأ بالأفول حتى يتحول عنه إلى خصمه ..
ولذلك سائت سمعة ابن خلدون في المغرب
مما جعله يرحل إلى مصر
وتولى فيها القضاء .. وهناك ظهر له الكثير من الخصوم الذين اتهموه ببعض المثالب الخلقية ،، فقالو فيه أنه يكثر من سماع المطربات ويعاشر الأحداث ويزدري الناس وهو لايكاد يعزل من منصبه حتى يصبح انساناً اخر فيأخذ بالتودد والتواضع لهم .هذه تهم ربما تكون مكذوبة اختلقها اعداءه وخصومه ولكن من بين الذين ذكروا هذه التهم ووثقوها هو ابن حجر العسقلاني وهذا الرجل يعد من ثقات المحدثين .
بعد ذلك أورد الوردي نموذجاً من الطريقة التي كان يتملق بها ابن خلدون للأمراء وهذا النموذج لم يروه خصوم ابن خلدون إنما رواه ابن خلدون نفسه في كتابه “التعريف” حين ذكر تفاصيل مقابلته لتيمورلنك خارج أسوار دمشق وكيف أن ابن خلدون تسلق السور وذهب لملاقاة تيمور خشية على نفسه من الموت والتنكيل إذا وقعت دمشق في يد تيمور
وكيف خاطبه ابن خلدون قائلاً له بأنه له قرابة الثلاثين عاماً يتمنى لقاءه لأنن ملك العالم وسلطان الدنيا ولم يظهر في الخليقة من عهد آدم لعهدهم ملك مثله وأنه كان يسمع في المغرب على لسان المنجمين وشيوخ المتصوفة عن قرب ظهور ثائر عظيم يستولي على أكثر المعمور وأن صفات هذا الثائر تنطبق على تيمورلنك .
إن هذا الذي ذكره الوردي يعطينا صورة واضحة بحسب قول الوردي عن خلق ابن خلدون وبراعته في النفاق والتملق والغريب أنه فعل كل ذلك عن عمر يزيد عن السبعين
وهنا يسأل الوردي إذا كان هذا حال ابن خلدون بعد أن بدل من سلوكه بعد اعتزاله وكتابه المقدمة وأصبح في السبعين من عمره فكيف كان حاله إذن عندما كان شاباً طموحاً محباً للسياسة ومندفعاً لها اندفاعاً شديداً؟؟
وقد وصف الوردي ابن خلدون بقصر النظر
لأنه كان يتزلف للأمراء تزلفاً صارخاً ثم ينقلب عليهم لايدري أن سره سينكشف آجلاً أم عاجلاً وأن الناس لن يأمنو له ولن يصدقوه ..
وهناك نقطة تلفت النظر بحسب قول الوردي
فالمعروف عن هؤلاء أن سلوكهم الشخصي
لايظهر في كتاباته واضحاً على العكس من ابن خلدون إذ أن أثر سلوكه الشخصي يظهر واضحاً في كتاباته فنجده في كتابه “التعريف” يذكر الأفعال الإنتهازية التي قام بها ويعدها أمراً طبيعياً لاداعي لكتمانه وأفرد فصلاً في مقدمته في أن السعادة والكسب إنما يحصل لأهل الخضوع والتملق وأن هذا الخلق من أسباب السعادة .. وهو أيضاً يذم المثاليين والمتزمتين ذلك لأنهم في رأيه لايسايرون التيار ولايسلكون حسبما تقتضيه طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه .
ويقول الوردي بأنه يخيل إليه أن من الأسباب التي دفعت ابن خلدون إلى ابداع نظريته الإجتماعية هو أنه أراد بها الدفاع عن نفسه وكأنه رأى الناس يذمون نفاقه فأراد أن ينشيء علماً جديداً ليقول فيه بأن هذا الخلق هو الذي يجب أن يتخلق به الناس إذ هو الملائم لطبيعة الحياة الإجتماعية .
أورد الوردي بعد ذلك رأي ابن خلدون في الثورة ..فهو صنف الثورات إلى ناجحة وفاشلة ويمجد الناجحة ويشجب الفاشلة منها شجباً مقذعاً بغض النظر عما يمكن أن تحتويه من مباديء عليا ومثل صالحة .
وتطرق ابن خلدون إلى أهمية العصبية في نجاح الثورة وهداه تفكيره إلى أهمية العصبية بعد فشله في تأسيس إمارة له في المغرب يعيد به ماكان لأبائه من مجد
.وهو يمجد الثورة الناجحة بغض النظر عما ينتج عنها من فوضى وسفك للدماء فهي في نظره ثورة قامت على أساس العصبية .. وعلل ابن خلدون خروج معاوية على علي ودافع عنه بأن هذا الأمر ساقته إليه العصبية واستشعرته بنو أمية واعصوصبوا عليه واستماتوا دونه .
وشجب ابن خلدون الثورة الفاشلة فالثائر في رأي ابن خلدون يجب أن يحسب حساب حركته قبل القيام بها ويحصي اتباعه وقوة عصبيتهم فإذا وجدها أضعف مماتؤدي به إلى النجاح الجدير به أن يجلس في بيته ويسكت .
ونسي ابن خلدون كيف بدأ النبي بدعوته وهو ذو عصبة ضعيفة جداً تجاه خصومه ..
ومع ذلك نجح صلى الله عليه وسلم في دعوته .. فالمسألة بحسب رأي الوردي ليست عصبية فقط إنما هناك عوامل أخرى تلعب دورها في نجاح الدعوة أو فشلها .
بعد ذلك يطرح الوردي تساؤل واعتراض وجده لدى الكثيرين ..
وهو : إذا كانت نظرية ابن خلدون تحتوي على هذه العيوب الكبيرة فكيف جاز أن نعدها طفرة في تاريخ الفكر الإجتماعي ؟
هنا يجيب الوردي بأن خطأ هؤلاء أنهم يفترضون في الشيء العظيم أن يكون عظيماً من كل ناحية ..فالمفروض في الإنتاج أن يجمع الجوانب الحسنة والسيئة في الوقت ذاته والناقد الذي يركز بحثه على الجوانب السيئة وحدها أو الحسنة وحدها إنما هو ناقد من طراز قديم .فابن خلدون بحسب رأي الوردي كان ذا تفكير عظيم بمقدار ماكان ذا سلوك منحط .ولعله لم يكن قادراً على إبداع نظريته الرائعة لو كان ذا سلوك اعتيادي .
كانت نظرية ابن خلدون طفرة بالنسبة إلى التفكير السائد قبله فقد كان المفكرون قبله مشغولين بأفكارهم المثالية التي تأبى النزول إلى واقع الحياة لتدرسه .
وجاء ابن خلدون ثائراً على هذا النمط من التفكير وتطرف في نزعته الواقعية مقابل تطرف القدامى في نزعتهم المثالية .. ونحن اليوم في حاجة إلى أن نتخذ الوسط بين هاتين النزعتين .٠
إنتقل الوردي بعد ذلك إلى مؤسس علم الإجتماع الحديث وهو بحسب ميل أكثر الباحثين إلى القول بأن أوجست كونت هو المؤسس الأول ..ويتسائل الوردي هل كان كونت مطلعاً على مقدمة ابن خلدون ؟؟
يحاول بعض الباحثين العرب انتزاع لقب “مؤسس علم الإجتماع ” من كونت ومنحه لابن خلدون باعتبار ان ابن خلدون سبق كونت بحوالي خمس قرون .. ويقول الوردي أن ابن خلدون له فضله الذي لايجحد في وضع الأسس لعلم الإجتماع ولكنه وضع الأساس قبل أوانه فلم يقم عليه البناء المطلوب .وشرح بعدها الوردي كيف أن مقدمة ابن خلدون نسيت على الرف بحسب قوله وقليلون الذين اطلعوا عليها
ولم تأخذ شهرتها إلا بعد أن وصلت إلى أوروبا فجاءتنا موضتها بحسب قوله .
وفي آخر الكتاب شرح الوردي أثر البداوة والحضارة في المجتمع الشرقي وفي أننا بحاجة علم إجتماع خاص بنا يستمد إطاره من تراثنا الإجتماعي ويستند على دراسة واقعنا ويجب أن لانكون مقلدين حيث نأخذ بكل ماجاء من نظريات ومفاهيم ثم نحاول تطبيقها على مجتمعنا بغض النظر عن الفروق بينه وبين المجتمع الذي نشأ فيه علم الإجتماع الحديث .
وأن علم الإجتماع الخلدوني على الرغم من عيوبه الكثيرة أقرب إلى فهم مجتمعنا من أي علم إجتماع أخر .ويختم الوردي كتابه بأنه آن الأوان لكي نرجع إلى الأساس الذي وضعه ابن خلدون لعلم الإجتماع والذي أهمل طويلاً وأنه يجب ازالة تراب الزمن عنه وتلقيحه بما ظهر مؤخرا من نظريات ومفاهيم اجتماعية جديدة وبهذا نتمكن من بناء علم اجتماع خاص بنا يتلاءم مع مجتمعنا .
وختاماً أرجو أن يكون وفقني الله إلى الإلمام بالجوانب المهمة في هذا الكتاب الرائع
ولكم محبتي .

 

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *